علمتني اليابان -1- : أن أتأمل!

في كل يوم من حياتنا نتعلم شيئاً جديداً، وبناءً عليه يتغير فينا أمرٌ ما حتى لو كان صغيراُ. ومع كل تجربة نخوضها، مُرةً كانت أم حلوة، نخرج وفي جعبتنا حكاية نود أن نسردها على مسامع غيرنا علّ أحدهم يستفيد.

منذ عامٍ ونصف تقريباً، بدأت تصلني رسائل تحمل بين طياتها أسئلة عديدة عن طبيعة الحياة اليابانية، وهل هي مشابهة لتلك المعروضة في الأنمي، وهل اليابانيون لطفاء، وما سر أعمارهم الطويلة إلى غير ذلك من الأسئلة المعتادة. ما استوقفني، تكرر هذه الجمل من أشخاص مختلفين ” كم أنتِ محظوظة!” ، ” لا بد أنك سعيدة!”، و” ليتني محلك!”.

ولأننا قد ننسى أنفسنا في خضم هذه الحياة السريعة، لم تتح لي فرصة التفكر مليّاً في فحوى هذه الرسائل، إلا قبل مدة عندما  جلست مع نفسي أتأمل مسار حياتي، عندها تساءلت حقّاً ” ماذا يعني أن أعيش في اليابان؟”،و”هل هنالك ما يميز المعيشة هاهنا؟”. لم تكن تلك الجلسة قصيرة، بل امتدت على مدى أسابيع، وما زالت مستمرة. وخلصت إلى أن العيش في بلد جديد علمني الكثير.

ومن خلال سلسلة “علمتني اليابان”، سأشارككم -من تجربتي الشخصية- بعض الأمور التي انطبعت عميقاً في داخلي وأصبحت جزءاً من نموي الشخصي.لربما تعلمها المغتربون في دول أخرى،ولكن علمتني اليابان أن:

1. الإنجاز غير مرتبط بعمر معين: اعتدنا أن الفترة ما بين 18-30 هي الفترة الذهبية التي يجب أن تزخر بالإنجازات وتحقيق الطموحات؛ لأنه اعتدنا أيضاً أن السنوات التي تلي سن الثلاثين مخصصة للإستقرار الوظيفي والزواج وتكوين العائلة إلى أن نبلغ سن اليأس الأربعيني، عندها يُفرض علينا الموت التدريجي، فقد عشنا ما يكفي من الزمن وأصبحنا كبار في العمر، وحان الوقت لاتاحة الفرصة أمام الجيل الشاب فننسى بذلك أي طموحٍ باقي!

تخيلوا عندما يكون متوسط العمر -كما هو الحال في الأردن- 74 سنة، تخيلوا عدد السنين التي تُهدر في اللاشيء عندما نربط الإنجازات بتلك الفترة الذهبية ونتوقف بعدها عن الطموح، عن الحلم، عن التطور!

أما الياباني فلا عائق يقف أمام استمرارية انتاجيته وعطاءه سوى انتهاء أجله!فتجده يقرر اكمال دراساته العليا في سن 60، أو البدء بمهنة جديدة بعد أن تجاوز سن التقاعد، أو قد يقرر – بعد أن تجاوز السبعين- أن لغة ما أعجبته فيبدأ بتعلمها! لماذا؟ لأن الياباني في قرارة نفسه يعي أن كل يوم في هذه الحياة هو كنزٌ لا يجب اهداره فيستغله!

6800890-3x2-700x467

2. النجاح ليس له شكل محدد: في عصر السرعة والإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي، أصبح في متناولنا الإطلاع على العديد من قصص النجاح في مجالات متنوعة لأشخاص من فئات عمرية مختلفة؛ فلم يعد النجاح مقتصراً على جيل ما دون سواه. ورغم أن هذه القصص نُشرت لتخبرنا بأنه بمقدور أي منا أن يصبح شخصاً ناجحاً، إلا أن البعض يعتقد أن النجاح يعني أن تكون صاحب شركة ناشئة أو مدرباً أو اعلامياً  أو … أي أن معيار النجاح محصورومحدد وهذا باعتقادي هو الخطأ بعينه. فأنت تملك وضع تعريف للنجاح وبيدك تحديد مفاتيحه؛ فلتبدأ بتقرير ما تحب واسعى نحوه بشغف وخطوات ثابتة، وعندما تصل مبتغاك تكون -برأيي- قد نجحت!

ومن الأمثلة الجميلة على التعريف الواسع للنجاح هو ما تداوله أشخاص على الفيسبوك عن تجاربهم وبداياتهم تحت وسم #قصة_البداية https://goo.gl/T0XHgM

3. مفتاح النجاح هو التعرّف على الذات:

أكاد أجزم أنه في فترات كبيرة من حياتي كانت فترة جلوسي مع نفسي لا تكاد تتجاوز فترة الخمس عشرة دقيقة التي تسبق النوم، كنت خلالها أسترجع بعض اللحظات العابرة في يومي ثم أستغرق سريعاً في نوم عميق. كنت أقضي أغلب وقتي مع الناس – أهلي وأصدقائي وطلابي…الخ- ، وما تبقى منه في متابعة مسلسل ما أو قراءة كتاب. ولم أدرك أهمية تخصيص وقت لنفسي إلا عندما قدمت إلى اليابان. في البداية كنت أشعر بالضيق لقضاء بعض الوقت وحدي – فالذي اعتاد رفقة الناس…يخشى الجلوس وحيداً- ، ولأنه من المتداول لدينا أيضاً أن الوحدة مدعاة للشفقة؛ فالذي يشرب قهوته أو يتناول وجبة الغذاء وحيداً مسكينٌ لا رفيق له ويستحق الشفقة. كما قلت البداية كانت صعبة، لكن بعد مدة، بدأت تعجبني فكرة قضاء بعض الوقت مع نفسي؛ لأنه أصبح بامكاني التفكير مليّاً في مسار حياتي بعيداً عن ضوضاء الحياة، وبدأت شيئاً فشيء بالتعرف على ذاتي والإجابة على هذه الأسئلة : ماذا أحب؟ ماذا يهمني حقاً؟ هل هذا مهم باعتقادي أم باعتقاد الآخرين؟ هل الطريق الذي أسير عليه هو ما أرغب به؟ هل هناك مهارات معينة أرغب باكتسابها؟لماذا؟ ما الحلم الذي أطمح بتحقيقه؟ كيف أصل إليه؟ من الأشخاص الذين يجب أن أحيط نفسي بهم؟

عندما أصبحت أخصص وقتاً لنفسي، أصبح تفكيري أكثر وضوحاً، وبدأت بالتركيز على طريقي نحو تحقيق طموحاتي بدلاً من التركيز على أمور ثانوية. كما أصبحت أراقب التغيير الإيجابي في نموي الشخصي مع كل خطوة أخطوها، وبدأت أكتشف أن السعادة مصدرها داخلي وتقويها المصادر الخارجية وليس العكس. وعندها عرفت أن مفتاح النجاح يبدأ بمعرفة نفسي جيداً.

 

5 thoughts on “علمتني اليابان -1- : أن أتأمل!

  1. جزاك الله خيرا على هذا المقال الرائع جداا صراحة 🙂 *-* فهو مليئ بجرعة من الطاقة الايجابية <3 و بالتوفيق لك في حياتك الشخصية.

  2. رائع جدا .. فعلا الخلوه والتفكير والتحدث مع الذات امر مهم لبناء شخصيه سليمه وحياه افضل , ترتيب الافكار مطلوب
    طلبت منك تراسليني لكن طنشتيني هههه , اتمنى تراسليني لانه حقيقي لازم اتواصل معاكي , تحياتي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*