ناغازاكي، جرح اليابان الغائر!

تملك اليابان قائمة لا تُحصى من الأماكن التي تستحق زيارتها، كمواقع التراث العالمي التسعة عشر والمسجلة لدى يونسكو، بالإضافة إلى المهرجانات والفعاليات الثقافية التي لابد أن تشارك فيها لتستشعر عراقة التاريخ والثقافة اليابانية.

ومع ذلك، عندما أُتيحت لي الفرصة للسفر داخل اليابان بداية هذا العام، لم أتردد للحظة وقمت بحجز تذكرتي إلى عروس جزيرة كيوشو، ناغازاكي الجميلة. وضعت قائمة بالأماكن التي أود زيارتها، والأطعمة التي أود تجربتها، وأخذت أنتظر قدوم يوم الرحلة بفارغ الصبر؛ فهذه رحلتي الفردية الأولى على الإطلاق، وسأتعرف خلالها ليس فقط على العائلة اليابانية الطيبة التي ستستضيفني -والتي تجمعني بهم الآن صداقة دافئة-، بل على مكنونات نفسي أيضاً.

أتذكرون ناغازاكي وهيروشيما؟ أعتقد أن أغلبنا يحفظ هذين الاسمين عن ظهر قلب؛ فهاتين المدينتين مرتبطتين تاريخيا بالقنبلة النووية والتي انتهت بسببها الحرب العالمية الثانية باستسلام اليابان. ولعل هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل زيارة ناغازاكي أمراً لا بد منه؛ فقد أردت أن أرى بأم عيناي كيف عادت ناغازاكي إلى الحياة بعد أن كادت تُمحى من الوجود!

حطت بنا الطائرة في يوم شتوي جميل، وخلال 5 دقائق استقبلتني هذه اليافطة مرحبة بي في مطار ناغازاكي الصغير والمسمى بمطار الإبتسامة، وكانت هذه أول بادرة حسنة بأن ناغازاكي لن تخيب ظني وستكون الرحلة رائعة.

مطار ناغازاكي

وبمجرد أن خرجت من بوابة القادمين، استقبلتني السيدة ميويكي وبرفقتها ابنتها الصغيرة آي وتوجهنا إلى منزلها حيث سأحل ضيفة عليهم لمدة 3 أيام. من لم يخالط اليابانيين لا يعلم مقدار إكرامهم الشديد للضيف، وصديقتي ميويكي لم تكن استثناءً. فمثلاً في طريق العودة إلى المنزل، توقفنا عند معلم أثري، نزلتُ من السيارة وكان الجو ماطراً فسارعت هي إلى حمل المظلة بينما أقوم بالتقاط الصور التي أريدها! وفي نفس الليلة أقامت مأدوبة عشاء فخمة وحضّرت لي غرفة خاصة ومنحتني جولة كاملة في أنحاء البيت وطلبت مني أن أتصرف كما لو أن هذا منزلي. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فعندما علمت بأنني سأتجول وحيدة في أنحاء ناغازاكي، شعرت بالقلق من احتمالية ضياعي فقامت بشراء بطافات الباص وطباعة خريطة ومن ثم مرافقتي إلى موقف الباص في اليوم التالي حتى لا أقوم بركوب الباص الخاطئ وهي تعتذر بشدة عن عدم تمكنها من مرافقتي!

عائلتي اليابانية

بدأتُ جولتي بالتنزه صباحاً في وسط ناغازاكي. كانت بعض السيارات والباصات تتنقل بهدوء، وعدد من المارة يمضون إلى مهامهم الصباحية، ومن ثم هناك قاطرات الترام المشهورة تسير برفق بين كل ذلك في مشهد جميل ينبض بحب الحياة.

أولى محطاتي كانت الرحلة البحرية إلى  “جزيرة هاشيما” -والتي سأحدثكم عنها في منشور لاحق لأن بضع سطور لن يوفي تلك الجزيرة حقها- والتي كانت تجربة مميزة بحق، فكم مرة تُتاح لي الفرصة لزيارة جزيرة مهجورة؟

بعد تلك الرحلة التي استمرت بضع ساعات، توجهت من الميناء إلى “فندق مونتوريه” القريب لأشتري مقابل 500 ين -أي أقل من 5دولارات- تذكرة الترام ليوم واحد والتي تتيح لي ركوبه قدر ما أرغب ومن أي محطة؛ وذلك لأنني أعشق الترامات لسبب مجهول ولأن أهم المعالم يمكن الوصول إليها عن طريق شبكة الترام الممتدة عبر أنحاء المدينة.

ومن الفندق إلى “معبد كونفشيوس” الصيني المزدان بالأحمر ومن فوقه يبرز التنين شامخاً إلى “المنحدر الهولندي” فحديقة التاجر الإسكتلندي كلوفر المشهورة والتي في جعبتها التاريخية والمعمارية الكثير لتفهمه وتراه وتمتلك اطلالة خلابة على “ميناء ناغازاكي“. أماكن عديدة تحمل جذوراً مختلفة من الشرق والغرب تكاد تُنسيك أنك ما زلت في اليابان؛ فحتى “كعكة كاستيلا” اللذيذة -من مأكولات ناعازاكي الشهيرة- من أصل برتغالي!

وطوال تجوالي في أنحاء المدينة، ومع كل مكان جديد قمت بزيارته ومعلومة جديدة قرأتها وصورة التقطتها وطعام تذوقته بدأ حبي لهذه المدينة المسالمة يتعمق شيئاً فشيئاً وشعورٌ بالبهجة والسلام والأمان يغمرني. وبدأت أتساءل هل حقاً وقعت هنا جريمة حرب؟

لكن هذه المشاعر الإيجابية تغيرت تماماً ما أن خطت قدماي المنطقة التي كانت مركز انفجار القنبلة النووية في ناغازاكي فيما مضى والتي أصبحت اليوم حديقة جميلة. وقفت أمام التمثال التذكاري المعبر بشدة عن المأساة التي مرت بها ناغازاكي؛ امرأة يعلو وجهها صمت مؤلم وبين ذراعيها يرقد طفلٌ ميت، وعلى قاعدتها وجدتُ هذا النقش الذي أثار القشعريرة في جسدي.

التمثال التذكاري في ناغازاكي

قبل 71 سنة، كان أهل ناغازاكي كغيرهم من أهالي المدن اليابانية الأخرى يعانون ويلات الحرب تحت وطأة الغارات الجوية التي نفذها الحلفاء أيام الحرب العالمية الثانية. وفي صبيحة اليوم التاسع من أغسطس عام 1945، هدأت صفارات الإنذار بعد أن ظن المراقبون اليابانيون أن الطائرات الحربية الأمريكية لن تنفذ أي هجمات في ذلك الوقت. في تلك اللحظة لربما تنفس أهل المدينة الصعداء، ولربما ترقبوا سقوط قنابل الموت في أي لحظة، ولربما صلوا من أجل أن تنتهي هذا الحرب. لكن هل توقعوا الفاجعة؟!

في الدقيقة الثانية ما بعد الساعة الحادية عشرة، انحفر ذلك الوقت في ذاكرة ناغازاكي والعالم للأبد كواحدة من أبشع لحظات الوحشية الإنسانية في القرن العشرين. أسقطت الطائرة الأمريكية القنبلة النووية (والمسماة بالرجل السمين) لتنفجر على بعد نصف متر فوق ملعب تنس وترفع درجة حرارة الأرض إلى 3900 درجة مئوية وتمسح كل شيء في طريقها من بشر ومباني وحياة على امتداد 3 كم. تأثير القنبلة كان شديداً لدرجة أن الأرض انخسفت عدة أمتار إلى الأسفل وتدمر 40% من المدينة وقُتل على الفور ما يقارب 75000 شخص! حاول أن تغمض عينيك وتتخيل معي حجم المجزرة: لم يختلط تراب الأرض التي أقف عليها ببقايا روح واحدة ولا اثنتين أو حتى عشرة بل 75000 روحاً صعدت دفعة واحدة وبلمح البصر إلى السماء بأنين مخيف!

لم تفارق القشعريرة جسدي وبدأ قلبي ينبض بشدة وأنا أسير في أنحاء الحديقة؛ بضع لحظات فقط كانت كفيلة لتسقط تلك القنبلة وتمحي في لحظة كل ما عرفوه. وكأن شيئاً لم يكن! توقفتُ أمام المعلم التذكاري الآخر والذي كان على شكل كفن أسود كُتب على جانبه 168757؛ هذا هو عدد الأشخاص الذين لاقوا مصرعهم لحظة الإنفجار أو ماتوا في أيام وسنوات تلت جراء الجروح والإشعاعات. ياه ما أوحش الإنسان!

التمثال التذكاري الثاني في ناغازاكي

وعلى بعد بضعة أمتار، عند أسفل الدرج تجد شاهداً من ذلك الوقت على تلك الجريمة النكراء ؛ عينة اختلط فيها اللحم بالحديد بالإسمنت وسُحقت فيها كل معالم الحياة. تُرى كيف استطاع الناجون أن يقفوا هنا وينظروا بشجاعة إلى اللاشيء؟! ربما ودّع أحدهم أباه أو أخاه أو ابنه أو ابنته وربما زوجته قبل ساعة الصفر ولم يعلم وقتها بأنه سيكون وداعاً أبدياً ليُفجع بالمصيبة ولا يجد حتى جسداً ليضمه مرة أخيرة، بل مجرد أشلاء أو حتى رماد! ماذا فعل أهل ناغازاكي ليستحقوا هذه الإبادة؟ أم في الحرب يُضحي المدنيون مجرد أرقام منسية مقابل انتصارات زائفة؟

بقايا القنبلة النووية في ناغازاكي

وفي الطرف القصيّ من الحديقة، تتدلى طيور الكركي الورقية التي يصنعها الأطفال عاماً تلو العام علّ تلك الأرواح التي صعدت قبل أوانها تجد السلام يوماً ما.

طيور الكركي الورقية

بعد أكثر من 70 عاماً، هل تعافت ناغازاكي حقاً؟ أتمنى بصدق أن يجد السلام طريقه إلى قلب ناغازاكي وأهلها.

6 thoughts on “ناغازاكي، جرح اليابان الغائر!

  1. يُعجبني تعبيرك و تشبيهاتك اختي جهاد :))
    رحله جميله و الاجمل كيفيه صياغتك للكلمات
    موفقه دائماً
    لكن عندي سؤال و ارجو اني لا اكون متطفله به، هل انتي في اليابان للدراسه ام السياحه؟ و ان يكن للدراسه فهل كان عن طريق منحه؟ اتمنى ان لا اكون متطفله

    • أهلا صديقتي آية 🙂 وأشكرك جداً على كلماتك الطيبة.
      بالنسبة لسؤالك: أنا أدرس حالياً في اليابان وعن طريق منحة الحكومة اليابانية للطلاب الأجانب المتفوقين.
      أتمنى أن تستمري بمتابغة المدونة.

      • ما شاء الله
        اتمنى ان ألحق بكِ إلى اليابان بإذن الله للدراسه عن طريق منحه الحكومه اليابانيه ايضاً، و لكن السنه القادمه ان شاء الله
        اذا ذهبتُ الى هناك من الضروري مُقابلتكِ

        و انا فعلياً من المتابعين 🙂

  2. تدوينة جميلة. لكن لدي سؤال
    هل من الممكن تعطيني الموقع الخاص باستضافة الزائرين الاجانب من قِبل عائلات يابانية؟

    شكرا

اترك رداً على jihadmahmoud إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*